ما حدث في غزة تصديق لوجود الطائفة المنصورة هناك.. كان اللقاء أثناء تدمير آلة الحرب الصهيونية لكل شبر من غزة، واستخدمت فيه الأسلحة المحرمة دوليًّا.
قال الرجل كلمة حق رغم منصبه الرسمي، بل عُرِف عنه أنه يقف على جانب إجماع الأمة حيال اليهود الذين قاموا بحرب إبادة لكل شيء، حسب ما ورد في التوراة التي كتبها حكماؤهم بأن يهلكوا الحرث والنسل، وألاَّ يتركوا حجرًا على حجر، فأيُّ دينٍ هذا الذي يعتقدون!!
وتحدث فضيلته عن أزمة الأئمة في مصر، وسعيه أن يجد لها حلاًّ مُقِرًّا بضعف الكثيرين، وعدم تأهلهم للخطابة، وغيرها من القضايا التي تتعلق بمصر وعالمنا الإسلامي، وكان اللقاء مع الشيخ الدكتور علي جمعة مفتي جمهورية مصر العربية.
- فضيلة الدكتور, للأسف خيم جو أحداث غزة علينا، ونرى اليهود يعيثون في الأرض فسادًا, ما سر هذا العلو في الأرض؟
** هذا يأتي من فَهْمٍ قد تبنّاه الصهاينة من أنهم لا بد أن يبيدوا الشعوب الصغيرة والكبيرة، كما صرّح بذلك كثير من حاخاماتهم، وكثير من حاخاماتهم نصُّوا بالنص هكذا: لا تتركوا وليدًا ولا طفلاً ولا شابًّا ولا رجلاً ولا امرأة إلا وأن تبيدوه.
وهذا الذي رأيناه عندما يضربون المدارس ومقر الأمم المتحدة والمستشفيات ويمنعون الإغاثة ودخولها... إلخ, حتى ملَّ العالم كله من تصرفاتهم وفسادهم في الأرض. وهذا جانب الرؤية الجبروتيّة التي تقوم في أذهان هؤلاء الصهاينة، وهي رؤية في الحقيقة ننزِّه عنها اليهود الذين خرجوا يعترضون في العالم على هذه المذابح والأوضاع الرديئة... إلخ.
فالصهاينة وقادة إسرائيل يرسمون أبشع وأسود النقاط في تاريخ البشرية، وهذا سيبقى مساحة سوداء لهم وسيلعنهم التاريخ ويلعنهم اللاعنون لذلك عدم اتحادهم؛ فالوحدة هي الأساس، فالفصائل الفلسطينية بينها نزاع، الحكام العرب بينهم نزاع.
التوجُّهات والرؤى في الشارع العربي متعددة ومختلفة, فإذا سألتني عن سبب عدم الوحدة، فأنا ألخصه في قضية مهمة، وهي ابتعادنا بصورة عامة عن ديننا.
فلو أننا سمعنا هذا النظام الأخلاقي الذي تركه لنا النبي، وقد ترك لنا الكثير، وهو الذي قال: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ". هذا النظام الأخلاقي يشمل 97% من السُّنَّة من عدد الأحاديث النبوية، و3% فقط تتمثل في كل الشريعة الإسلامية من أوَّلها إلى آخرها.
وكل الفقه الإسلامي من أوَّله إلى آخره؛ فربط النبيبين الأخلاق وبين العقيدة، لو تخلَّينا عن هذا النظام الأخلاقي وجعلناه هامشيًّا وأخرجناه من حياتنا، خرج معه الكثير جدًّا من الرؤى العقائدية عند المسلمين، فنرجع إلى ديننا ولكن بصورته القشرية أو بصورته الظاهرية أو بصورته الشعائرية.
ونترك أساس هذا الدين وهو الأخلاق والعقيدة. إذن فأنا أُلَخِّص هذه البلوى من الانفصال وعدم الوَحْدة، وفي عدم التمسك بديننا.
- هل يدرك اليهود أن الفساد الذي يقومون به هذا هو العلو في الأرض؟
** بعضهم يرى ذلك؛ هناك من يرى معارضة النظام القائم الآن ويرى أنه لا بد ألاّ يرجعوا إلى هذه الأرض حتى يقبل الله I توبتهم، وهؤلاء على رأسهم منظمة ناتوري كارتا (حرّاس المدينة)، وهي جماعة صغيرة تعتبر الحركة الصهيونية التي أقامت دولة إسرائيل بمنزلة "السم" الذي يهدِّد "اليهود الحقيقيين".
وهذه المنظمة تتبعها 21 منظمة ضد الصهاينة من اليهود. فهناك رؤية أخرى يهودية ترى أن الذي يحدث في فلسطين الآن من اغتصاب الأرض، واحتلال البلاد، ومذابح يقومون بها عبر هذا التاريخ الأسود، كل هذا باطل وضد الديانة اليهودية، وهذا ما يرونه ناتوري كارتا (حراس المدينة).
ولكن - للأسف - هؤلاء قلة ولكن موجودون، ويمكن للمسلمين أن يتعاونوا معهم، وأن يجعلوهم يوضحون للعالم كله حقائق ما يحصل في فلسطين بدلاً من هذا التلبيس والتدليس.
- لا نتحدث عن قوتهم, ولكن عن ضعفنا فنحن لسنا كفئة مرابطة في أرض الإسراء, لسنا مؤهَّلين لتأييد الله, لقد ابتعدنا عن ديننا كثيرًا؟
** النبيينبهنا إلى أنه لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم إلى يوم القيامة, ينبهنا إلى أن هذا الدين متين فأَوْغِلْ فيه برفق، وأننا ينبغي لنا أن نتمسك به، وما دامت هناك أمة خيرية لا تزال قائمة على الحق فإننا نستبشر خيرًا أننا لا نزال نرابط، والذي يتصور أن القضية الفلسطينية مسألة إبادة شعوب مخطئ؛ فالشعب لم يُبَد.
فالخير في أمة محمدإن شاء الله إلى يوم القيامة، وهذا مأخوذ من قول النبي: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ". ولكن لم يحدث هذا خلال الـ60 سنة، وفي هذا بشرى؛ لأننا أمة مقاومة وإن كانوا يتسلطون علينا بكل هذا العدوان الطغيان.
- لماذا ضعفت نصرة أهل غزة من كثير من الشعوب العربية؟ وعلى من تعود تبعة ذلك؟
** أنا أرى أن الكثيرين - والحمد لله - قاموا بما يستطيعون؛ هنالك من قاموا بالمظاهرات التي حرّكت العالم، وهناك من قاموا بالتغطية الإعلامية التي بيّنت للعالم مذابح الأبرياء والأطفال، ومَن قاموا بالمساعدات المادية حتى إنني عرفت من بعض أهل غزة أنهم قد اكتفوا من المؤن... إلخ.
وإن كنا لا نرضى بهذا الاكتفاء؛ لأنهم هدموا البنية التحتية لغزة ولأهلها. فالمصاب جَلَل، وما فعلناه - صحيح أنه قليل - لكنه ليس منعدمًا، فلا نستطيع أن نطلق القول هكذا ونقول: إن الشعوب العربية لم تتحرك، فالأمة ما زالت بخير.
وهذا التحرك على مستوى العلماء وما حدث من دعوة رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة والإصرار على أن يصدر بيان غزة. هذه التحركات السياسية التي حدثت وأخذت الأمم المتحدة في صفِّها، وأخذت الشارع العالمي في صفها، هذا كله يدل على أن الأمة ما زالت حية.
- هل التبعة على القيادات, أم العلماء الذين شغلهم ما يشغل العامة؟
** لابد للقيادات أن تتحد مع الشعوب، والشعوب يتحد مع القيادةات من غير فصل بين الجانبين لأن الأمّة أمة واحدة .
- ما واجب كلٍّ من العلماء والسياسيين، وفي مثل هذا الوقت بالذات؟
** أدعو الجميع إلى الوَحدة، والنصح، والوقوف بجدية تتجاوز الشجب والاستنكار.
النظام الأخلاقي يشمل 97% من جملة الأحاديث النبوي
الانفصال وعدم الوحدة وعدم التمسك بديننا هو سبب البلوى.
منظمة ناتوري كارتا اليهودية تعتبر الصهيونية بمنزلة السم
النهوض بالدعوة لا يحتاج إلى قرارات، إنما يحتاج إلى همّة وإخلاص
العلماء الموظفون!
- كثير من العلماء - للأسف - دون المستوى علمًا ودعوة ومثابرة، بل تحول الأمر إلى وظيفة بلا وازع داخلي ورغبة للتغيير؟
** لا بد لنا أن نهتم بقضية التربية وقضية التدريب وقضية التعليم، لا بد لنا أن نهتم بقراءة التراث وبالمعاصرة، وقراءة تراث الإنسانية, لا بد لنا أن نهتم أيضًا بالمعرفية والمنهجية بكيفية التعامل مع الكتاب والسُّنَّة، وهذه الأركان هي التي تشكِّل العالم وتخرجه من أي أزمة كانت إن شاء الله.
- كيف نستطيع السعي للإصلاح في هذه الأمة من وجهة نظركم؟
** مناحي السعي لإصلاح الأمة ينبغي أن تكون شاملة تتعلق بقضايا الصحة وبقضايا البطالة وبقضايا التعليم وبقضايا البحث العلمي وبقضايا التكافل الاجتماعي، وتتعلق أيضًا بقضايا الحياة والفنون والآداب والرياضة.
وكل هذا يمثل مجموعة من الأنظمة التي تكسر هذه الدائرة المفرغة التي نعيش فيها, نشارك بعد ذلك في الحضارة الإنسانية، ونشارك أيضًا في التعاون العالمي، ويكون لنا كلمة ونكون شهداء على الناس، كما أرادنا الله I أمة وسطًا.
- الإصلاح ليس وعظًا فحسب, بل يحتاج إلى قوة ووازع مؤمن (إن الله ليَزَعُ بالسلطان ما لا يزعُ بالقرآن)، ألست معي في ذلك؟
** هذا قول منسوب إلى سيدنا عثمان بن أبي عفان t، والقضية قضية قديمة، وهو أنه لا بد من ضبط الناس وربطهم وألاَّ يتركوا لأهوائهم، و هناك فارق ما بين الحرية والتفلُّت,؛ الحرية ممدوحة ومطلوبة شرعًا وطبعًا وعُرفًا ووضعًا.
ولكن التفلُّت يسبِّب الفوضى ويسبب الهرج والْمَرَج، ويسبِّب اختلاف الناس بما يؤذي جملة المجتمع. ولذلك نحن نفرِّق دائمًا ما بين الحرية وما بين الفوضى لأن الله I يزع بالسلطان مَن لا يُوزَع بالقرآن، ومن لا يلتفت إلى معاني القرآن فيتبع نفسه هواها ولايلزم حدوده مخطئ، فالسلطان يرسم الحدود، ويسعى وراءه بشرع الله I.
- لماذا نجد الكثير من المساجد ليس فيها دُعاة مؤهَّلون، وبالتالي لا نجد خطيب المسجد مؤهلاً؟
** في الحقيقة كَثُر الناس وزاد عددهم، فنحن كان لدينا في مصر نحو 90 ألف مسجد، والآن أصبح 110 آلاف مسجد، نحن في حاجة إلى عددٍ من الأئمة حتى نسيطر على يوم الجمعة، فيكون هناك الإمام المؤهَّل والمؤذن المؤهَّل والخطيب المؤهَّل، فنحن محتاجون إلى 110 آلاف من الدعاة, في القاهرة أصبح الآن 5 آلاف في القاهرة وحدها.
وعلى ذلك فنحن أمام مشكلة الكَمّ، وهذه المشكلة يمكن أن نتغلب عليها بقضايا التدريب؛ ولذلك نرى مثلاً وزارة الأوقاف تقوم بعملية تدريب الأئمة من ناحية، واستيفاء العجز بتعيين الجديد من خريجي الأزهر من ناحية أخرى عندما يتقدم لديها 15 ألف شخص، فيتم اختيار 1500 فقط هم المؤهَّلون القادرون على خوض هذه المهمة وهذه المهنة.
فإذن نحن نتعامل الآن مع كم كبير، ونحن في حاجة إلى عمل كثير:
أولاً: تدريب الموجود؛ والتدريب عملية مستمرة، فلا نكتفي بدورة تدريب واحدة أو دورتين أو مستوى واحد أو مستويين، فلا بد أن يكون التدريب مستمرًّا.
ثانيًا: العجز القائم بالمؤهلين عن طريق الاختبارات وليس عن طريق التعيين، وهذا يحتاج إلى وقت، لكن الحال تحسن جدًّا؛ فنحن لدينا 110 آلاف، منهم 45 ألفًا يتبع الوزارة والباقية لا تتبع الوزارة، والـ45 ألفًا تسمع منهم خطبة جيدة، وترى فيهم مؤهلين تأهيلاً مناسبًا.
ولما زادت هذه الزيادة نحتاج إلى وقت ونحتاج أيضًا إلى حزم، وقضايا التدريب والاختبار هي التي ستتحول كيفيًّا إلى إمام المسجد الذي نريده وما نتوخّاه.
- كيف نربِّي داعيةً مؤهلاً من وجهة نظركم؟
** التربية عملية مستمرة من المحبرة إلى المقبرة كالتعليم بالضبط؛ ولذلك لا بد لنا أن تستمر هذه التربية عن طريق الدورات التدريبية، وعن طريق الكتب والمراجع، وأن يعيش الداعية عصره، وأن يكون على علم يوميًّا بما يحدث حوله، ومقتضيات الذي يحدث حوله.
- ما القرار الذي من الممكن أن تتخذه للنهوض بالدعوة؟
** النهوض بالدعوة يحتاج إلى همة وإخلاص، ويحتاج إلى وضوح رؤية، ويحتاج إلى قضية أمة، ويحتاج إلى إنشاء رأي عام؛ الكلمة كالبذرة تلقيها فتنبت شجرة، والشجرة تؤتي ثمارها إن شاء الله، وكل هذا بالإخلاص.
- ما رأي فضيلتكم في توحيد الأذان في مصر؟
** توحيد الأذان مسألة فقهية أقرَّها أبو وفاء بن عقيل الحنبلي، وأقرها الشافعية وأقرها الحنفية والحنابلة أيضًا بشرط أن يكون مسموعًا. وهذه القضية بدأتها الأردن قبل مصر في سنة 1974م، وقبل الدول الإسلامية بدأت فيها تركيا ونجحت نجاحًا طيبًا، وقبل ذلك بدأت اليمن وأبو ظبي، وكل هذه البلدان وخاصة الأردن لها تجربة كبيرة أكثر من 35 سنة، وهي تجربة ناجحة بكل المقاييس.
- هل تتوقع فضيلتكم أن تكون التجربة ناجحة بمصر؟
** مصر - والحمد لله - بلد حضارة وعلم، وستكون كذلك.
- هل هذا القرار لِمَ يقابل بالرفض؟
** لم يُرفض وهو الآن في طور الإعداد، وتم فعلاً بث تجريبي له، وإن شاء الله قبل مُضِيّ هذا العام 1430هـ يكون قد انتهى وكل القاهرة تكون قد دخلت هذا النظام، ثم بعد ذلك المحافظات الأخرى طبقًا للمواقيت المختلفة لهذه المحافظات.
الكاتب: محمد الجوهري
المصدر: موقع قصة الإسلام